يحظى أمن الملاحة البحرية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر باهتمامات دولية وإقليمية متزايدة. وقد أصبح مضيق باب المندب، الذي يقع بين منطقة القرن الإفريقي المكتظة بالصراع وشبه الجزيرة العربية, و ساحة البحر الأحمر، ساحة للتنافس الإقليمي ومنصة انطلاق لأعمال القرصنة والإتجار بالبشر والإرهاب. وتعرضت السفن الأمريكية والسعودية والإماراتية للعديد من الهجمات أو التهديدات الإرهابية بتواتر متزايد خلال السنوات القليلة الماضية أثناء عبورها المضيق، وقد أسفرت الهجمات الحوثية في عام 2018 عن توقف شحنات النفط من شركة أرامكو السعودية بشكل مؤقت. وقد استُخدمت الدول الساحلية المطلة على البحر الأحمر مثل الصومال كملاذ آمن للقراصنة والمنظمات الإرهابية مثل تنظيم القاعدة وفرعه حركة الشباب الإسلامية.
توقف مؤقت لشحنات النفط السعودية عبر مضيق باب المندب يؤدي إلى زيادة المخاوف الأمنية (Arab News).
مشروع نيوم
كما ساهمت إمكانات التنمية في العديد من القطاعات داخل منطقة القرن الإفريقي، بحكم موقعها الرئيسي في بوابة القارة الإفريقية، سواء كانت في مجال البناء والتشييد أو البنية التحتية أو العقارات، في تزايد الأهمية الجغرافية الاستراتيجية للمنطقة. وتكتسب منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وما تتمتع به من قدرات على إنتاج الغذاء أهمية خاصة بالنسبة للجهات الفاعلة في منطقة الخليج العربي. وقد أبرزت الجائحة وتداعياتها على اضطرابات سلاسل الإمداد مدى اعتماد دول مجلس التعاون الخليجي على الواردات الغذائية بصورة مفرطة، مما أدى بدوره إلى دفع مشكلة الأمن الغذائي في مقدمة الأولويات السياسية الخليجية. وبالإضافة إلى الاستثمارات في القطاعات المذكورة أعلاه، فإن التعاون في مجال الخدمات اللوجستية والزراعة والتقنيات الزراعية آخذ في التصاعد كذلك، مما سيدعم التدفقات التجارية بين شبه الجزيرة العربية والقرن الإفريقي، مما يؤكد على ضرورة تأمين مياهها. ومن جانب آخر، وضع مشروع المملكة العربية السعودية الضخم, نيوم وشركة البحر الأحمر للتطوير المُنشأة حديثًا, إلى جانب مبادرات أخرى على امتداد ساحل البحر الأحمر, يجعل المنطقة في صميم أولويات معظم الخطط التنموية والاستثمارية في المملكة.
مشروع البحر الأحمر
كما ترتبط حركة التجارة العالمية ارتباطًا قويًا باستقرار مضيق باب المندب والبحر الأحمر، حيث تمر أكثر من 10% من الشحنات والبضائع البحرية عبر مياهه، بما في ذلك معظم أنشطة التبادل التجاري بين آسيا وأوروبا. ويعبر المضيق شحنات تقدر بنحو 700 مليار دولار أمريكي سنويًا من حجم التجارة في طريقها إلى قناة السويس ومن ثم إلى البحر الأبيض المتوسط. كما يمر 1.5 مليون برميل من النفط الخام يوميًا عبر الممرات المائية الاستراتيجية، حيث يتم تصدير ما يقرب من 10% من إجمالي النفط الخام السعودي إلى أوروبا عبر هذا الممر المائي. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الكمية الأكبر من الخام الأوروبي الوارد من جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط الكبير يمر عبر منطقة البحر الأحمر.
وقد دفع ذلك – إلى جانب المخاوف الأكبر المتعلقة بحالة عدم الاستقرار الإقليمي – دول الخليج إلى وضع منطقة القرن الإفريقي تحت مظلة اختصاصاتها الأمنية الإقليمية. وقد ساهم تقلص الدور الأمريكي في حفظ وحماية أمن منطقة الشرق الأوسط فضلاً عن الصراع المحتدم في اليمن بقوة في تعظيم حاجة دول مجلس التعاون الخليجي إلى تنفيذ استراتيجيات جديدة للسياسة الخارجية تكون أكثر استقلالية وتتسم بالعملية وتستهدف تعزيز الاستقرار الإقليمي.
شاركت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات وقطر وتركيا بشكل خاص في حل النزاعات في منطقة القرن الإفريقي. وقد دفعت المتغيرات الإقليمية في جميع أنحاء دول مجلس التعاون الخليجي، وكذلك الصراع السعودي الإيراني، إلى تأجيج السباق من أجل إحكام السيطرة والتأثير على منطقة الصحراء، سواء كان ذلك اقتصاديًا أو عسكريًا. وانطلاقًا من السياسات الخارجية والمصالح الوطنية لكل منهما، كانت الأطراف المتصارعة تتنافس على بسط النفوذ في المنطقة من خلال إنشاء القواعد العسكرية، وضخ الاستثمارات في مجال الخدمات اللوجستية والموانئ، أو حتى من خلال تقديم الدعم الاقتصادي أو السياسي.
ولقد أخذت البلدان الخليجية على عاتقها تحمل المزيد من المسؤوليات الأمنية الإقليمية والفردية، وكان هناك دافع لزيادة المشاركة في التحالفات البحرية متعددة الأطراف وإرساء قدر من التعاون الإقليمي. وأطلقت المملكة العربية السعودية “مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن” في السادس من يناير 2020. وعلى الرغم من إقرار الجميع بضرورة العمل في إطار تعاوني وبناء التحالفات المثمرة، إلا أن حدة المنافسة على بسط النفوذ والتأثير في الساحة لا تزال مستعرة. وتم انتخاب كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في المنظمة البحرية الدولية (IMO) في عام 2021، مع التأكيد على المشاركة الإقليمية القوية في حماية أمن الملاحة البحرية. كما تعمل الكويت من جانبها هي الأخرى على تعزيز مشاركتها في عمليات حفظ الأمن البحري الإقليمي، حيث قامت بدورها في قيادة مهمة القوة البحرية المشتركة بعد أن اختتمت المملكة العربية السعودية مناوبتها في أوائل عام 2021 – وهو ما يشير إلى مواصلة كسر هيمنة القيادة الغربية التقليدية.
فوز السعودية والإمارات بعضوية مجلس المنظمة البحرية الدولية لعام 2022-2023
كما تزايدت معدلات الإنفاق الخليجي على توريد الأصول البحرية – إدراكًا لمفهوم قوة الردع – إذ إن هناك رغبة ملحة في تعزيز القدرات المحلية من خلال التدريب والحصول على الأجهزة والمعدات. وتعمل كل من الرياض والدوحة وأبوظبي على توسيع نطاق قدراتها البحرية من خلال الاستثمار في الطرادات والفرقاطات والغواصات وإجراء المناورات التدريبية البحرية. وتتعاون دول مجلس التعاون الخليجي مع مجموعة أوسع من الشركاء الأمنيين من خلال إجراء التدريبات البحرية أو عبر توقيع الاتفاقيات أو شراء المعدات، وبالتالي بناء تحالفات أمنية دولية في ظل رغبة واشنطن في تقليص نطاق مشاركتها الأمنية في المنطقة.
إلا أن اهتمام الولايات المتحدة بالقرن الإفريقي لم ينتهي بعد، ولا سيما، مع استمرار ارتفاع معدلات نمو الاستثمارات الصينية في جنوب الصحراء الكبرى. ومن المحتمل أن تسعي الولايات المتحدة لتعزيز نطاق تواجدها في هذه النقطة الاستراتيجية، إذ إن الأسطول الخامس الأمريكي التابع للبحرية الأمريكية والمتمركز في البحرين قد أضاف منطقة البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن إلى قائمة مهامه. كما دشن الأسطول الخامس قوة جديدة تحمل الرقم 59، بهدف دعم الأسطول الذي يحتوي على أنظمة الطائرات المسيرة بدون طيار جوًا وبحرًا وتحت الماء. ولا تزال أكبر قاعدة أمريكية في إفريقيا – معسكر ليمونير في جيبوتي – نشطة أيضًا – مما يؤكد على الأهمية المتزايدة لأمن البحر الأحمر على المستوى العالمي ورغبة الولايات المتحدة في بقاء تواجدها على شواطئه. ومن المرجح أن يكون هذا الأمر ذا أهمية كبيرة لدى القيادة الأمريكية بالنظر لوجود القاعدة البحرية الصينية الأولى خارج حدودها وأكبر قاعدة عسكرية شبه دائمة خارج آسيا في جيبوتي (والتي أنشئت في عام 2017). وفي حين أن تواجد نحو 2,000 جندي من جنود جيش التحرير الشعبي لا يشكلون تهديدًا عسكريًا جاد، إلا أن تواجدهم قد أفضى إلى تعزيز وضع بكين في إيجاد موطئ قدم لها في جيبوتي المطلة على باب المندب. ومع ذلك، فقد ظل نهج الصين المتبع في سياستها الخارجية على أساس ﻣﺒﺪأ عدم التدخل راسخًا باعتباره جزءًا لا يتجزأ من استراتيجيتها لتعزيز علاقاتها مع الجهات الفاعلة في البحر الأحمر. وتعتمد المشاركة الصينية في القرن الإفريقي بالأساس على الطموحات الاقتصادية التي تظهر في توقيع العديد من الشراكات مع كل من جيبوتي وإثيوبيا حيث تكمن غالبية أهتمامات الصين. وبالمواءمة مع الأهداف التنموية لكلتا الحكومتين، تمكنت بكين من بسط نفوذها وتوغلها في المنطقة، فضلاً عن المضي قدمًا في طريق الحرير البحري، وهو العنصر الرئيس في مبادرة الحزام والطريق.