نجح رد حكومة حزب "العمال" السريع على أسوأ أعمال شغب عرقية تشهدها المملكة المتحدة منذ عام 2011 بتهدئة موجة العنف، إلا أن الأسباب الكامنة وراء هذه الأحداث- من العنصرية إلى الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي- لم تُعالج بعد. ويواجه رئيس الوزراء كير ستارمر الآن تحديا ثلاثيا يتمثل في تحقيق الوحدة وجذب الاستثمارات الأجنبية ومعالجة القضايا الأعمق التي تهدد استقرار المملكة المتحدة وسمعتها العالمية.

بعد أن استغل نشطاء اليمين المتطرف وسائل التواصل الاجتماعي لنشر شائعات مغلوطة حول مقتل ثلاثة أطفال في نادٍ يدرب على أسلوب تايلور سويفت في ساوثبورت يوم 29 يوليو/تموز، ناسبين وفاتهم خطأ إلى مهاجر مسلم، اندلعت احتجاجات عنيفة في عدة مدن، بما في ذلك لندن ومانشستر. واستُهدفت تجمعات المهاجرين ومساكن طالبي اللجوء، كما تعرضت عدة مساجد للهجوم، لا سيما مسجد عبد الله كويليام في ليفربول. إضافة إلى ذلك، كاد فندق يؤوي طالبي لجوء في روثرهام أن يُحرق.

 

وردت حكومة حزب "العمال"، بقيادة رئيس الوزراء كير ستارمر، بحرص، حيث تابع رئيس الوزراء لأعمال الشغب بشكل مباشر، ما أدى إلى تهدئة الاحتجاجات، مستفيداً من خبرته السابقة كرئيس للنيابة العامة أثناء أعمال الشغب عام 2011، إذ شهد على توترات عرقية وفوارق اجتماعية واقتصادية مماثلة، ولم يكتفِ رئيس الوزراء بنشر قوات مكافحة الشغب بسرعة، بل أصدر تعليماته للمحاكم لمقاضاة مثيري الشغب. وأوضحت الحكومة أن أي شخص شارك في أعمال الشغب- سواء بشكل شخصي أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي- قد يواجه التهم.

وقد نجح الرد الحاسم للحكومة في إنهاء هذا الفصل من العنف بسرعة. ومع ذلك، فإن نشر قوات مكافحة الشغب واعتقال المواطنين الغاضبين- حيث وُجهت تهم إلى أكثر من 1200 شخص تتعلق بالسلوك العنيف وحُكم على أكثر من 450 شخصا بالسجن- ليس سوى حل قصير الأمد. وما لم تُعالج الأسباب الجذرية لأعمال الشغب، فإن موجات جديدة من العنف قد تندلع.

 

معضلة كير

تجنبت الحكومة مناقشة الأسباب الكامنة وراء أعمال الشغب علنا. وهناك مقاربتان تحليليتان متنافستان لتحديد هذه الأسباب: العنصرية ومعاداة المهاجرين في المجتمعات البيضاء مقابل الإقصاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي لهذه المجتمعات. تحمّل المقاربة الأولى المشاغبين مسؤولية العنف، واصفة إياهم بالعنصرية والبلطجة والانتهازية، بينما تقدم الثانية تبريرا لأفعالهم، محملة المسؤولية لسوء الإدارة الوطنية والمحلية. لا يعتبر أي من التفسيرين مُرضيا لرئيس الوزراء المنتخب حديثا، خاصة مع عزمه على تعبئة الشعب خلف أجندة "التغيير" الوطنية.

إذا كانت حكومة ستارمر تهدف إلى منع تكرار أعمال الشغب وتوحيد البلاد لتحقيق أجندة النمو، فسيتعين عليها تطوير استجابة شاملة تعالج الأسباب الجذرية للعنف. صعد حزب "العمال" إلى السلطة بأغلبية ساحقة في يوليو/تموز، وهو يملك تفويضا لتطوير سياسات طموحة تساعد في عكس التدابير التقشفية التي استمرت لعقد من الزمن، وإعادة تطوير وتنشيط المراكز الحضرية المتدهورة، ورفع مستوى الشمال الإنكليزي، وإعادة تنشيط العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. ولكن، ونظرا لأن حكومة حزب "العمال" ورثت مستويات عالية للغاية من الدين العام، فإن مثل هذه السياسات ستتطلب استثمارات أجنبية مباشرة كبيرة.

وهنا تكمن المشكلة. فمنذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 2017، بذلت الحكومة المحافظة جهودا كبيرة لإقناع شركاء المملكة المتحدة الدوليين بأنها وجهة رئيسة للاستثمار. وحققت جهودها النجاحات إلى حد ما، خصوصا بين دول الخليج العربي وصناديق ثروتها السيادية. فبين عامي 2017 و2024، جذبت المملكة المتحدة استثمارات مباشرة من المملكة العربية السعودية (21 مليار دولار) والإمارات العربية المتحدة (7.9 مليار دولار). واستفادت بعض الشركات والمجتمعات البريطانية من هذه الاستثمارات في المناطق الأقل رخاء في شمال شرق وشمال غرب البلاد.

 

أعمال الشغب ليست جديدة على المملكة المتحدة، فهي جزء من تاريخ البلاد، والاحتجاجات جزء من نسيجها الديمقراطي

 

 

ومع ذلك، فقد المستثمرون الدوليون بعض الثقة في المملكة المتحدة خلال الفترات السياسية المتقلبة لرؤساء الوزراء بوريس جونسون وليز تراس وريشي سوناك، مما ألحق الضرر بمكانتها وسمعتها الدولية. وهكذا، فإن وقوع أعمال الشغب العرقية سيزيد من مخاوفهم.
أعمال الشغب ليست جديدة على المملكة المتحدة، فهي جزء من تاريخ البلاد، والاحتجاجات جزء من نسيجها الديمقراطي. والسلطات هناك تحب الاحتفاء بتنوع المملكة المتحدة ونجاح نموذجها المتعدد الثقافات. لكن الصور التي تُبث للعالم من أعمال عنف تستهدف شركات يمتلكها بريطانيون من أصول آسيوية وأفريقية، وإشعال النيران في فنادق تؤوي طالبي لجوء، ومساجد تتعرض للهجوم، تعطي انطباعا مختلفا تماما- عن الترهيب العرقي وانعدام القانون- ولا تعتبر دعاية جيدة لبلد يسعى لجذب الاستثمار، خاصة من الدول الإسلامية. 


ما الخطوة التالية؟

إذا أراد كير ستارمر إقناع المستثمرين بأن المملكة المتحدة لا تزال سوقا جذابة، وجذب الاستثمارات في مشاريع البنية التحتية الكبرى التي تفيد المناطق الأكثر فقرا في البلاد، فسيتعين عليه طمأنة الشركاء الدوليين بأن البلاد مستقرة وموثوقة ويمكن التنبؤ بمستقبلها وتتبع القانون الدولي، ومعالجة أسباب أعمال الشغب الأكثر تحديا: العنصرية والهجرة.
وبالنظر إلى أن حكومة حزب "العمال" تمتلك أغلبية ساحقة، فإنها تتمتع بتفويض لمعالجة مثل هذه القضايا المعقدة. الوقت الآن مناسب لستارمر لمواجهة قضية العنصرية، خاصة أن مجلة "الإيكونوميست" ذكرت الأسبوع الماضي أن 17في المئة فقط من الناس يعتقدون الآن أنه من المهم جدا أن تكون مولودا في بريطانيا لتُعتبر بريطانيا حقيقيا، بعد أن كانت النسبة 48 في المئة في عام 1995. من خلال التركيز على "التعليم، ثم التعليم، ثم التعليم"، كما فعل رئيس الوزراء السابق توني بلير، وإجراء تغييرات جوهرية على المناهج الدراسية، وخاصة في العلوم الاجتماعية- بما في ذلك التاريخ والجغرافيا والدراسات الدينية- يمكن لحزب "العمال" أن يضمن مشاركة المجتمع بأسره في تعريف شامل لما يعنيه أن تكون بريطانياً وأن تنتمي إلى الأمة.
كما ستحتاج الحكومة إلى اتخاذ خطوات للحد من تدفق المعلومات المضللة- وهي قضية تواجهها كل المجتمعات.

إن أفضل وسيلة لتجهيز المجتمع لإدارة تدفق المعلومات بشكل أفضل هي استثمار الجهود في تعليم أطفال المدارس، وإشراك أولياء الأمور والمجتمعات المحلية في المشروع، وتنظيم شركات وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أكثر فعالية، بدلا من محاولة رقابة المحتوى.
ستستمر الهجرة في تقديم تحدٍ ملح ومستمر للحكومة والمجتمع على حد سواء، خاصة مع تقدم تغير المناخ. ولذلك، من المهم أن يبدأ حزب "العمال" حوارا مفتوحا وصادقا مع الجمهور، بدلا من تجنب القضية وترك المجال الأيديولوجي لليمين أو اليسار.
يمكن استخلاص الدروس من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فقد غادرت المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي لأن رؤساء الوزراء المتعاقبين- الذين أخذوا في اعتبارهم دورات الانتخابات- فشلوا في مناقشة عضوية بريطانيا بشكل مفتوح وصادق. وبحلول الوقت الذي دعا فيه رئيس الوزراء آنذاك ديفيد كاميرون إلى إجراء استفتاء، كانت المعركة قد خُسرت بالفعل. وإذا اتبع ستارمر المسار نفسه وتجنب مسألة الهجرة، ستنمو مشاعر الاستياء بين الجماعات المناهضة للهجرة، مما يؤدي إلى المزيد من أعمال الشغب ويثني المستثمرين عن الاستثمار.
يمتلك رئيس الوزراء البريطاني التفويض لمواجهة قضايا الهجرة والمعلومات المضللة والعنصرية بشكل مباشر والعمل على استعادة صورة المملكة المتحدة كدولة مستقرة وآمنة ويمكن الاعتماد عليها ليس فقط للزيارة، بل للاستثمار فيها أيضا.