تعد مشكلة ندرة المياه واحدة من المشكلات الشائعة في منطقة الشرق الأوسط، وسوف تزداد سوءًا مع التغيرات المناخية. مع ذلك، فإن الافتراض الرائج، الذي يزعم بأنها سوف تؤدي إلى اندلاع نزاعات مسلحة، يتجاهل فرص التعاون، والابتكار، والتكيف التي تظهر عند مواجهة هذا التحدي المشترك. إن تطوير اتفاقيات قائمة على التشاور، وقابلة للتكيّف، ومستدامة بشأن المياه العابرة للحدود -كخزانات المياه الجوفية وأحواض البحيرات والأنهار المشتركة بين بلدين أو أكثر– يستطيع أن يمكّن الجيران من تحسين علاقاتهم وأن يُبعد، من ثم، شبح الصراع. كذلك يمكن للاتفاقيات أن تساعد على الحد من آثار التغير المناخي، التي تمثل تهديدًا مضاعفًا، لا عنصرًا عاديًا من عناصر الصراع حول المياه.
سد النهضة الإثيوبي العظيم
سد النهضة الإثيوبي الكبير في جوبا وريدا، منطقة بني شنقول جوموز في إثيوبيا ،26 سبتمبر، 2019. (September 26, 2019 Tiksa Negeri/Reuters)
يبين مشروع “سد النهضة الإثيوبي العظيم “كيف يمكن أن يتسبب غياب الاتفاق بين أصحاب المصالح -في هذه الحالة بين إثيوبيا، والسودان، ومصر- في توترات ومشاحنات، غير أنه يوضح أيضًا كيف تستطيع دبلوماسية مياه خلاقة أن تجنِّب الدول الدخول في صراعات، وتشجع سياسات إيجابية للتعامل مع القضايا العالمية الملحة، مثل التغير المناخي.
قامت إثيوبيا بملء خزان سد النهضة بقرار من طرف واحد مرتين حتى الآن، الأمر الذي أسفر عن توتر العلاقات بين القاهرة وأديس أبابا. ويهدد الملء الثالث –وما يليه- باستنزاف حصة مصر في المياه بمقدار 12-20 مليار متر مكعب سنويًا، مما يعرض القطاعات الزراعية والصناعية في البلاد إلى ضرر بالغ، ومن ثم، ينال من الأمن الغذائي، وسبل العيش، وإنتاج القمح.
وعلى الرغم من التكهنات التي تتوقع بأن تؤدي التوترات المتزايدة بين البلدين إلى نشوب مواجهة عسكرية، سلكت مصر مسارًا آخر: حيث كثفت نشاطها الدبلوماسي مع البلدان المجاورة -بما في ذلك أوغندا وأنجولا وسيراليون- في محاولة لحشد الدعم السياسي من أجل الوصول إلى حل منصف مع الجانب الإثيوبي. كما أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن خطط لبناء وتشغيل 17 محطة لتحلية المياه لزيادة الموارد المائية غير التقليدية من 831,690 متر مكعب يوميًا إلى 2.8 مليون متر مكعب يوميًا بحلول عام 2025. وتتضمن الخطط إدماج الطاقة الشمسية، وبالتالي تعزز توجه مصر نحو تطوير قطاع مياه منخفض الكربون.
اتفاقية المياه بين الأردن وإسرائيل
من اليسار إلى اليمين: وزيرة الطاقة والموارد المائية الإسرائيلية كارين الحرار ، ووزيرة التغير المناخي الإماراتية مريم المهيري ، ووزير المياه والري الأردني محمد النجار يوقعون اتفاقية المياه في معرض دبي إكسبو في 22 نوفمبر 2021 بحضور مبعوث المناخ جون كيري وولي العهد الإماراتي. الأمير محمد بن زايد. (وزارة الخارجية الإماراتية / تويتر)
من اليسار إلى اليمين: وزيرة الطاقة والموارد المائية الإسرائيلية كارين الحرار ، ووزيرة التغير المناخي الإماراتية مريم المهيري ، ووزير المياه والري الأردني محمد النجار يوقعون اتفاقية المياه في معرض دبي إكسبو في 22 نوفمبر 2021 بحضور مبعوث المناخ جون كيري وولي العهد الإماراتي. الأمير محمد بن زايد. (وزارة الخارجية الإماراتية / تويتر)
وفي مقاربة خلاقة أخرى لسياسات المياه، اتفقت الحكومة الأردنية، في عام 2021، على شراء 200 مليون متر مكعب سنويًا من إسرائيل مقابل 600 ميجاواط من الطاقة سنويًّا. وتمثل الصفقة اتفاقًا تاريخيًا يسمح للأردن –أحد أفقر بلدان العالم من حيث المياه- بتأمين مواردها المائية الحيوية، وفي الوقت نفسه يسمح لإسرائيل بتحقيق أهدافها في مجال الطاقة المتجددة، ويمثل تأكيدًا آخر على تطور العلاقات الثنائية بين البلدين.
وقد أبرمت الصفقة بوساطة إماراتية، وحازت على دعم إيجابي من جون كيري، المبعوث الأمريكي الخاص بشؤون المناخ، الذي حضر توقيع الاتفاق. وعلاوة على المنافع البيئية والاجتماعية الواضحة، يرسل التعاون في مجال دبلوماسية المياه رسالة إلى مجتمع دولي تتزايد اهتماماته بقضايا الطاقة، مفادها أن اللاعبين الإقليميين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ينخرطون بجدية في التنمية والاستثمارات المستدامة. مع ذلك، قد تظهر تحديات داخلية، من بينها ضرورة إطلاق حملة للدبلوماسية العامة من أجل الترويج لمنافع التعاون، والتغلب على حالة فقدان الثقة المجتمعية بين الجارتين، أو الشواغل المتعلقة بالميزانيات المحلية، أو التباين في استراتيجيات الطاقة، والتي يمكن أن تهدد سلامة الاتفاقية.
وتستطيع دول أخرى في المنطقة، إبّان تصديها للتحديات الخطيرة الناجمة عن ندرة المياه، أن تتبنى مقاربات مماثلة مع جيرانها في قضايا المياه.
لقد أدى قرار تركيا الانفرادي ببناء سدود على نهري دجلة والفرات إلى تقليص حصة العراق وسوريا من المياه بدرجة كبيرة. فمنذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، شيدت تركيا أكثر من 20 سدًا على طول مجرى النهرين في إطار “مشروع جنوب شرقي الأناضول”، تماشيًا مع سياسات تقول تركيا إنها تتوافق مع شروط الأمم المتحدة للاستخدام المنصف والمعقول للمياه. بموجب “بورتوكول عام 1987 بشأن المسائل المتعلقة بالتعاون الاقتصادي بين الجمهورية العربية السورية وجمهورية تركيا”، يتعين على أنقرة إمداد سوريا بـ 500 متر مكعب في الثانية على الأقل. غير أن تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أن سوريا تستقبل الآن أقل من 50% من حصتها: قرابة 200 متر مكعب في الثانية.
هذا، ويشكل الوضع المائي في سوريا خطرًا داهمًا، إذ لا تزال البلاد تشهد أسوأ موجة جفاف منذ 40 عامًا، كما تعرضت شبكة المياه فيها لأضرار جسيمة أثناء الحرب. ونظرًا لافتقار سوريا إلى القدرات التكيفية التي تتيح لها تنمية مواردها غير التقليدية وإصلاح بنيتها التحتية المائية، تعتمد على تركيا في توفير إمدادات مياه مستقرة وكافية. فإذا استمرت تركيا في تجاهل بنود الاتفاق، سوف تعاني سوريا من عجز طويل الأجل في المياه يمكن أن يعصف، من ثم، بجهود المساعدة في استقرار البلاد في عالم مع بعد الحرب. كما سوف يقوض قدرة سوريا على البدء في تعافٍ اقتصادي يقوده القطاع الزراعي، لا سيّما أن هذا القطاع كان مسؤولًا عن 40% من إجمالي الناتج المحلي قبل الحرب.
عَرَضٌ آخر من أعراض الصراع في سوريا يتمثل في تحويل المياه إلى سلاح، من جانب مختلف الأطراف التي تتنافس على بسط نفوذها وسلطانها على البلاد، الأمر الذي يفاقم من حدة العجز. ولقد استخدمت “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) السيطرة على مصادر المياه كاستراتيجية لكسب الولاء والهيمنة على الأراضي، وهي تكتيكات لا تختلف عن تلك التي استخدمتها حماس في لبنان. فمن خلال السيطرة على مثل تلك الخدمات، تستطيع الأطراف غير التابعة للدولة تعزيز موقفها من أجل الاستيلاء على الأراضي وكسب ولاء السكان. ولعل سياسات تركيا لحجز المياه تمثل، في جانب منها، محاولة للتصدي لذلك، خاصة في شمال وشرق سوريا، حيث تواجه “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”، بقيادة كردية، شتاء عصيبًا للغاية. وقد جاء تحرك أنقره لاحتلال المناطق الشمالية والأراضي الحدودية بُعيد التوسع الكردي الذي ضم أكبر ثلاثة سدود في سوريا تحت سيطرته. وما لم تشرع القوى الإقليمية الكبرى في تطوير دبلوماسية مياه فعالة، وتتصدى لقضايا المياه التي تهدد الجميع، فسوف يقلص غياب استراتيجية ناجعة للمياه فرصة تحرر سوريا من دائرة العنف الجهنمية.
إن مسألة ندرة المياه، بقدرتها على مفاقمة التوترات القائمة، يجعلها قضية ملحة للحكومات –ليس بسبب تداعياتها على الاقتصاد فقط، لكن أيضًا على الأمن والتماسك الاجتماعي. والتغيرات المناخية يمكن أن تضاعف من آثار ندرة المياه، لكنها تمثل أيضًا فرصة للتغلب على أحد أبرز التحديات العالمية، من خلال إبرام الاتفاقات الثنائية ومتعددة الأطراف. إن ندرة المياه، من حيث كونها تمثل خطرًا متفشيًا يهدد معظم بلدان المنطقة، ويرتبط ارتباطًا مباشرة بقضايا التغير المناخي والطاقة المتجددة، تمثل أيضًا حافزا على التعاون العابر للحدود.
وتوضح استراتيجية مصر طويلة الأجل للمياه كيف تستطيع البلدان التي تعاني من ندرة الموارد أن تلجأ إلى خيارات أخرى بخلاف التصعيد العسكري، تحفّز بيئة الابتكار والتجارة والتعاون الدولي؛ خيارات ليست أكثر فعالية فحسب، بل أقل كلفة بكثير من حيث رأس المال المادي والسياسي والاجتماعي. وتبيّن الصفقة الأردنية-الإسرائيلية كيف يمكن للتعاون من أجل التصدي لندرة المياه تحسين الاستقرار الإقليمي وخلق فرص للدبلوماسية عوضًا عن الانزلاق إلى الصراع.
مع ذلك، فالاتفاقيات لا تعني الكثير من دون إجراءات راسخة تضمن الالتزام بها. وحين تغيب الآلية، تُفاقم مخاطر انتهاك الاتفاقيات من ديناميّات الصراع، وتسمح بتحويل التغيرات المناخية إلى عنصر مؤجج للصراعات. وبالرغم من نجاحات دبلوماسية المياه الخلاقة، فإن أفضل ما يمكن تقديمه للبلدان التي تعاني من أزمة مياه مزمنة تطوير آلية التزام تحت إدارة دولية يمكن أن تعزز أيضًا من الجهود الجماعية لمجابهة المخاوف المشتركة المتعلقة بالتغيرات المناخية.