تعد المعرفة سمة أساسية نحو تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة. واقتصاد المعرفة هو الاقتصاد الذي يعطي الأولوية للأصول الفكرية والمهارات الفنية مع التركيز على قطاعات التصنيع والخدمات عالية التقنية. ويمكن أن يُعزى التحول الاقتصادي في كوريا الجنوبية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي إلى تحولها إلى اقتصاد قائم على التقنية. إذ أطلق الاقتصاد الكوري خطط التنمية الاقتصادية الخمسية في عام 1962، واستثمر في موارده البشرية عبر طرح برامج تعليمية لتوجيه تطورها التقني. ولذلك، ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في كوريا الجنوبية من 94 دولارًا أمريكيًا إلى 31,000 دولار أمريكي في ستين عامًا، مما أدى إلى ارتفاعها في التصنيف العالمي من المرتبة 84 إلى المرتبة 32. وقد حولت استثمارات كوريا في مجالات العلوم والتقنية قطاع الأعمال التجارية، مما مهد الطريق أمام شركات متعددة الجنسيات مثل سامسونج وهيونداي.
وقد وضعت الجهات الحكومية الرقمنة كمحرك ومؤشر لنموها الاقتصادي، منذ إطلاق رؤية المملكة 2030. فقد تم ربط حوالي 70% من الأهداف الاستراتيجية للرؤية بالتقنية والتحول الرقمي.
أطلق ولي العهد المملكة العربية السعودية محمد بن سلمان استراتيجية برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث
وتماشيًا مع الهدف المتمثل في بناء اقتصاد معرفي، فإن القرار الاستراتيجي للمملكة للتأكيد على تحولها الرقمي يرتكز على مواردها البشرية. وتستهدف استراتيجية برنامج خادم الحرمين الشريفين للمنح الدراسية – التي أُطلقت في مارس 2022 – تعزيز القدرات التنافسية للمملكة وتوسيع نطاق حضورها العالمي من خلال توفير التوجيه والمنح الدراسية لأفضل الجامعات. وتحدد الاستراتيجية – ضمن إطار برنامج تنمية القدرات البشرية في رؤية 2030 – قيمة الدعم والتدريب لسوق العمل قبل وبعد التخرج. كما أطلقت وزارة الثقافة من جانبها برنامج المنح الثقافية في عام 2019 ويستهدف الطلاب الجامعيين والخريجين المتخصصين في مجالات صناعة الأفلام والسينما والموسيقى والأدب والفن والتصميم. وتماشيًا مع استراتيجية تنمية الموارد البشرية لوزارة السياحة، أطلقت المملكة مبادرات تعليمية وتدريبية لقطاع السياحة. ويستخدم البرنامج أدوات رقمية لتزويد ما يزيد عن 200,000 سعودي بأدوات التطوير المهني اللازمة للعمل في قطاعات السياحة والترفيه المتنامية.
وأعلنت وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات في أغسطس 2021 عن خطتها التقنية التي تبلغ قيمتها 1.2 مليار دولار لتعزيز المهارات الرقمية لـ 100,000 شاب سعودي بحلول عام 2030. كما أطلقت الوزارة برنامجها الوطني لتطوير التقنيات لتوجيه جهود المملكة نحو برنامج التحول لتصبح مركزًا تقنيًا إقليميًا. وستحدد الاستثمارات في خطط تنمية الموارد البشرية والتعليم في المملكة المنهجية التي ستتبعها الإنتاجية وبيئة الابتكار في العقد القادم. كما نظمت وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات مؤتمر ليب (LEAP) التقني الدولي في الرياض عام 2022، حيث أعلنت المملكة أنها تجاوزت 6.4 مليار دولار من الاستثمارات في المشاريع التقنية. وأطلقت مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية كذلك منصة الكراج (Garage) لريادة الأعمال والابتكار في المؤتمر. وتهدف المبادرة إلى تدشين الشركات التقنية الناشئة وتزويدها بالأدوات التقنية اللازمة للقيادة على الصعيدين الإقليمي والدولي. سيشهد الاقتصاد المعرفي تدفقات من المنشآت الصغيرة والمتوسطة والشركات الناشئة القائمة على التقنيات والتي ستتنامى بدورها وتساعد على التحول الاقتصادي في نهاية الأمر. كما ستؤدي الاستثمارات في تنمية قاعدة الموارد البشرية بالمملكة على نحو مباشر إلى التحول نحو قطاع خاص أكثر استدامة.
وتعد الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) والتي أطلقت في أغسطس 2019 واحدة من أبرز الأمثلة على جهود التحول في المملكة، وكان الهدف منها قيادة الجهود التي تبذلها المملكة نحو مسيرة التحول الرقمي والتقدم التقني. وأطلقت (سدايا) فعالية تحت شعار “البيانات هي نفط القرن الحادي والعشرين”. ووفقًا لتقديرات (سدايا)، ستساهم تقنيات الذكاء الاصطناعي في 12.4% من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة العربية السعودية بحلول عام 2030. كما أنشأت الهيئة بنك بيانات وطني لدمج حوالي 30% من الأصول الرقمية الحكومية، وهذا من شأنه تعزيز مستويات الإنتاجية وتدعيم عمليات القطاع العام. ومن خلال تنفيذ استراتيجية الذكاء الاصطناعي والتقدم التقني، تمكنت (سدايا) من تحديد السبل التي تمكّن الحكومة من تحقيق وفورات وإيرادات إضافية بقيمة 10 مليارات دولار.
الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)
قامت (سدايا) بإطلاق عدة منصات إلكترونية مصممة خصيصًا لدعم الجهود الحكومية لمواجهة فيروس كورونا فور تفشي الجائحة، وكان من أبرزها تطبيق “توكلنا”. وبحلول مايو 2021، تجاوز عدد مستخدمي تطبيق “توكلنا” 20 مليون مستخدم (وهم يشكلون أكثر من نصف تعداد سكان المملكة). ويقدم التطبيق حاليًا مجموعة من الخدمات العامة، بما في ذلك الجواز الصحي وخدمات رخص القيادة وخدمات استخراج تصاريح الحج والعمرة والتأمينات.
ومع وجود أكثر من نصف تعداد السكان دون سن 35 عامًا، فإن توجه المملكة لتنويع اقتصادها يركز على قيمة نظام التعليم المتقدم. ويرتبط مضي المملكة قدمًا نحو تحقيق الازدهار الاقتصادي بشكل مباشر بمدى قدرتها على إنشاء مؤسسات تقنية فعّالة، على أن تنتهج هذه المؤسسات نمط الأعمال القائمة على التقنيات وبرامج التعليم ومبادرات القطاع العام. وتخطط (سدايا) لتنمية الاقتصاد السعودي ليصبح واحدًا من ضمن أفضل عشر اقتصادات عالمية في مجال البيانات وتقنيات الذكاء الاصطناعي. وعلى غرار محاكاة التجربة الكورية الجنوبية، فإن نجاح المملكة العربية السعودية في رسم ملامح مستقبلها الطموح سيتحدد من خلال مبادرات تنمية الموارد البشرية وتطوير التعليم. ولا شك أن خيار التخلي عن الاقتصاد النفطي والاعتماد على إيرادات غير نفطية يشكّل تحديًا كبيرًا، إلا أنه من خلال بناء المملكة لاقتصادها المعرفي، ستكون مؤهلة تمامًا لترسيخ مكانتها كمركز اقتصادي عالمي للتقدم التقني في المستقبل.